
لا اعتقد انها كانت جميلة، و بدى لي في تلك اللحظة، ان جمالها نبع من الدموع المتساقطة في هدوء و بطء، على قميص الشاب الذي أحاطها بذراعيه منذ دخولهم المطار. لم يتبادلا الحديث خلال فترة جلوسهم في قاعة الانتظار و بدى لي ان ألمهم قد فاق قدرة الكلام، فاختاروا من الصمت ملجأ لهم. كان المطار الداخلي صغير و اعتقدت بأن احدهم سيسافر و الآخر باق و لكنهم توجهوا سوية لنقطة التفتيش حتى كدت ان استوقفهم، و اعلمهم بأنه لا يسمح لغير المسافرين بعد هذه النقطة فاستبقني الاسمر صاحب القميص الأزرق، حاملا جوازين سفر، يحملون ذات اللون و ذات الشعار، هم اذاً من المكان ذاته، لعل .وجهتهم مختلفة و هي سبب الدموع التي توقفت لدقائق التفتيش، و عادت تتساقط عند دخولنا البوابة
ادرت وجهي مبعدا نظراتي عنهم و سرعان ما اعدت نظري نحوهم، فقد كان المطار الداخلي خال من ما يشغل الوقت الى حين ركوب الطائرة، سوى استراق نظراتي لهم مخفيا وجهي بين كتاب حملته معي و فضلت قراءة وجه الفتاة الباكية ذات العينين الخضراوين عن قرائته. كنت اراها تغمض عينها كل بضع دقائق لعلها تحاول استيعاب ما حصل او سيحصل او لعلها تحاول إيقاف سيل الدموع، حاولت قراءة نظراته و بدى فيها حزن ترقرق في دمعة يحاول منعها من السقوط، لعله يريد اخفاء ضعفه عنها او يفضل استبقاء قوته لأجلها.
صعدنا على متن الطائرة الصغيرة و بدى التعب و قد تدفق لجسدها فتمسكت بالشاب ليسندها، سمعت صوتها يحاول الاستقامة و هي تجيب المضيفة التي سألت عن حالها بأنها لم تنم، هذا كل مافي الأمر. شعرت بدموعها تسيل بشدة دون حتى ان انظر اليها، التفت بسرعة فوجدت بقع الدموع تكسو القميص الأزرق الصامت الذي سعى جاهدا أن لا يسقط دمعته. انتظرت أن يغفى احدهم او كلاهم و لكن عبث، ساعة و ربع قضوها على حالهم، يداه تحيطانها و رأسها يبكي على صدره و استغربت غطاء رأسها الذي بقي ثابتا لا يحتاج لادنى تغيير او تعديل.
وصلنا للمطار الدولي و تباطئت بخطواتي حتى اتبعهم لعلي اشهد تغييرا او اجد تفسيرا لبكائها، لعلها ستغادر المطار و يستقل هو طائرة تحمله لمكان آخر، او لعلها ستسافر و يعود هو من حيث اتينا. عبروا كلاهم من ممر الرحلات القادمة و توجهوا سوية لزاوية هادئة فسقطت تبكي بمرارة بين يديه، احتضنها لبضع دقائق، مسحت هي على شعره و حاول هو أن يهدئها، حتى سكنت، ناولها جوازها و حملت حقيبتها و افترقوا، توجهت هي للبوابة التي اتجهت اليها و رأيته بعد دقائق يمضي نحو البوابة ذاتها، كل جلس في ناحية و لو انني لم اراهم سوية منذ بضع دقائق لما تخيلتها تبكي دما بين يديه.
ركبنا الطائرة و انا ادعي في سري ان يكون مقعدي بجانب احدهم و حبذا لو كان بجانبها، و وجدت نفسي ألوم نفسي، هأنذا اراها حكاية ريثما تتعذب البطلة امامي و استغربت غبائي لرغبتي في الجلوس بجانبها فأمامي رحلة ستمتد لسبع ساعات و من الأرجح انها ستبكي خلالهم كما فعلت منذ اللحظة الاولى التي رأيتها فيها. رغم ذلك الا انني حمدت ربي عندما وجدت مقعدي في صفها، يفصل بيننا الممر حيث استطيع رؤيتها بسهولة، هي على يمين الممر و هو على الجانب الايسر و للمرة الاولى في حياتي كنت شاكرا للمقعد الاوسط.
لم احتاج لأن التفت لأراهم يتبادلون ابتسامة ألم، سمعتها تطلب من المضيفة كوب ماء لتأخذ قرص مسكن، فهي لم تنم منذ البارحة ثم رأيتها تشير له بأنها ستنام و ابتسم هو و قد كسى بعض من الامل. غفيت انا و لم يزعجني موقعي فكنت كلما صحيت من يميني أراها غافية، دموعها مازالت رطبة على خديها و حجابها ثابت لا يحتاج لادنى تغيير او تعديل، و كلما صحيت من يساري أراه غاف بوجه عبوس، لعله يفكر فيما حصل، او ما سيحصل، اكاد اقسم بأنني ارتحت انا الآخر عندما رأيتها تنام اخيرا، فقد كان منظر دموعها مجهد بحد ذاته.
هبطت الطائرة و مازالت غافية و دموعها قد جفت، رأيته قبل ساعة من الهبوط و قد صحى يتأملها من موقعه، لعله خائف عليها أن تعود لدموعها إن صحت، او لعله اشتاق لعينيها الخضراء و يود رؤيتهم، او انه شاكر لأنها غفت اخيرا و أخذت قسطا من الراحة. بدأ القلق يسود ملامحه فقد مضت ساعات و هي لاتزال غافية، يتأملها و لا يستطيع فعل شيء، اشعر به على وشك ان ينادي المضيفة كلما مرت بجانبه و لكنه يتوقف، فليس من المفترض أن يعرف احد عن علاقتهم. هبطت الطائرة و سمعت الرجل الجالس بجانبها ينادي المضيفة، يخبرها بأن الفتاة لم تصحى منذ ساعات، و هو خجول لا يود إزعاجها، حاولت المضيفة أن تصحيها و لكنها بقيت نائمة، و شعرت به يكاد يقفز من مقعده ليصل اليها، في حين اسرعت المضيفة تخبر الكابتن عن حالة طارئة. طلب منا نحن الركاب أن نلتزم مقاعدنا لحين قدوم المسعفين، ساد الهدوء في الطائرة و لم نسمع سوى صوت الشاب صاحب القميص الأزرق الذي ما عاد صامتا، و علم كل شخص على متن الطائرة أن الفتاة الميتة تخصه.